يعرض تليفزيونيا برنامجان مختلفان هما "ماستر شيف أستراليا" و"المتدرب". في البرنامج الأول يتم اختيار متسابقا ليصير طاهيا متميزا في أستراليا، وفي الثاني يتم اختيار متدربا متفوقا في علوم ادارة الأعمال يعين لمدة عام براتب سنوي قدره 250.000 دولارا !! في إحدي الشركات المملوكة لدونالد ترامب حول العالم. فبالرغم من اختلاف نوعية كل من المتسابق المتقدم للاختبار ولجنة الفحص والتقييم في البرنامجين الا أن الأسس التي تنهض عليها مقومات التقييم تكاد تكون واحدة، وكذلك هناك عقل (آلية التفكير) واحد يجمع بينهما.
هناك اختلافات كثيرة بين لجنتي التحكيم في البرنامجين، ففي أستراليا تتكون لجنة إختيار الماستر شيف من ثلاث خبراء في الطهي مابين طاه متمرس وناقد فني في الأطعمة والمطاعم. أما لجنة اختيار المتدرب في أميريكا، فتتكون من ترامب ذاته، وهو صاحب مؤسسات تجارية عملاقة واثنين من كبار الخبراء في الادارة والتسويق من كبار موظفيه, وكذلك هناك تباينا شديدا في ثقافة أعضاء اللجنتين، فالدرجات العلمية متباينة والواقع الحياتي مغاير في البلدين, هذا يؤدي بالطبع إلي اختلاف في نوعية الملبس، فيرتدي ترامب ومساعديه أفخر أنواع البدل الرسمية، ويعيشون في أرقي أحياء نيويورك، بينما يرتدي أعضاء لجنة ماستر شيف أستراليا الملابس العادية التي يربطها بمعاييرالأناقة علاقة تنال تقدير "ضعيف غير قابل للرفع" كما يبدو عليهم أنهم من الطبقة المتوسطة ودونها، ومن ثم يقطنون أحياءا عادية. وتؤدي هذه الفروق بالطبع إلي تفاوت ملحوظ في استخدام اللغة من حيث المفردات وطريقة التلفظ, هذه الاختلافات تؤدي بالضرورة إلى ضآلة احتمال لقاء أعضاء اللجنتين مما لا يتيح لترامب أن يكون هو أو أي من مساعديه قد ترعرعوا وتربوا مع أي عضو من لجنة الماستر شيف في حي سكني واحد أو تزاملوا في مدرسة ثانوية بمدينة ملبورن أو بمدينة نيويورك، أو علي الأكثر تناول أي من أعضاء اللجنة الأميريكية وجبة "تشيز بيرجر كومبو" أعدها أحد الحكام في اللجنة الأسترالية في أحد مطاعم الوجبات السريعة. وبالرغم من ذلك، هناك خيط متين يربط بين أعضاء اللجنتين يتمثل جليا في اتفاقهما علي القيم التي تتأسس عليها المفاضلة بين المتسابقين.
أما من جهة المتسابقين، فهناك فروق بينة بين نوعيتي الجهتين. فبين المتقدمين لنيل لقب طاهي في أستراليا تجد مدرس، خبير في علم من علوم الحاسب الآلي، طالبة دراسات عليا, طالب جامعي، عاطل (حاليا) عن العمل، محاميا, وربة منزل وغير ذلك. كما تتباين الأعمار من العشرينيات حتي الخمسينيات. علي الجهة الأخري، ترقي درجة التعليم بين المتقدمين عن مثيلتها في أستراليا لتنحصر في حاملي الدرجة الجامعية في علوم الادارة عموما أو المحاماة والذين درسوا في أرقي الجامعات الأميريكية مثل هارفارد، برينستون، وييل، أما متوسط الأعمار فأقل بكثير وتنحصر غالبا في العشرينيات. فيما يخص المظهر العام، تظهر من تحت زي الطاهي الموحد (مريلة بيضاء) الذي يرتديه جميع المتسابقين والمتسابقات، ألوان "تي شيرت" مختلفة تعلو الجينز. كما هناك من يرسم وشما علي ساعده أو رقبته، وهناك من يرتدي "حظاظة" حول معصمه. أما علي الجانب الأميريكي، فالثياب الأنيقة الفاخرة، للآنسات و الرجال، هي القاسم المشترك.
إذن ماذا يجمع هذا الشتات الواضح سواء بين لجنتي التحكيم أو بين المتسابقين في الدولتين؟ هناك أرضية مشتركة يقف عليها أعضاء اللجنتين، هي الجدية والحزم والقسوة المغلفة بالاحترام في معاملة المتسابقين أثناء فترة الاختبار التي قد تمتد إلي قرابة الأسبوعين أو أحيانا إلي أكثر حسب نوع المهمة المطلوبة. إضافة إلي المراقبة المستمرة لسيرالمهمة، فلا يتم التقييم للمنتج النهائي فقط، بل هناك عيون علي كيفية سير العمل طوال فترة المهمة لترصد عمل الفرق وكذا انجاز الأفراد. يضاف إلي ذلك عامل الوقت –من حيث الفاعلية والفعالية-- كعامل هام في التقييم، فكل مهمة تكلف اللجنة بها المتسابقين تحدد مسبقا بوقت محدد لا يحيد عنه أحد. إذن هناك، عن عمد، ضغط عصبي تقصد اللجنة تعريض المتسابق له، لأن في الحياة الحقيقية لن ينتظره الآخر المنافس. ثم يأتي التقييم الكيفي (الطعم- الشكل) للصنف الذي أعده الطاهي، والكمي (المكسب المادي) الذي حققه المتسابق في معسكر رجال الأعمال. يعقب ذلك الثناء علي المتميز وتصعيده للمرحلة الأعلي ومواجهة المقصر بأخطاءه ومن ثم استبعاده علي الفور. عقب استبعاد ترامب لأحد المتسابقين، كثيرا ما يعلق قائلا بأنه كان متسابق جيد يمتلك مهارات عدة، وأنه يأسف شخصيا لاستبعاده من المسابقة، ولكن الدلائل المادية والمعنوية أشارت إلي ضرورة الاقصاء.
أما فيما يتفق فيه المتسابقون، هناك التميز الكبير للمتقدم في مهارات التخصص، الثقة الشديدة بالنفس مهما حدث ومهما كانت النتائج، التنافس الشريف، القيادة والعمل في فريق، السعي وراء حل المشاكل الظرفية الطارئة، ، إحترام رأي اللجنة في المرشح النهائي دون مجادلة أو مناقشة أو تشكيك، وابراز وتباهي المتسابق لما يميزه عن سواه من مهارات. هناك دموع تزرف عند الاستبعاد من المسابقة، ليس علي الفشل، بل علي عدم النجاح في المهمة. وهيهات مابين ما تشير إليه الكلمتين من مدلولات، فهما ليسا مترادفين البتة. فالمستبعد يخرج قويا بتنافسه الشريف، بخبرته ودرايته بمجال تخصصه، وأخيرا بالخبرة التي أكتسبها داخل المسابقة، والتي لم تتح لكثيرين غيره. هذا لايعني البتة أنه غير كفء أو لايفهم عمله، ولكن هناك من هو/هي أفضل حاليا. ليس هناك قاعا لمسألة ما، بل هناك عديد من الأسطح يتراتب الواحد تلو الآخر كالحفر الأركيولوجي علي حد قول المفكر اللبناني علي حرب.
ما الذي يدعو إذن محاميا، مدرسا، خبير كومبيوتر، أو طالبة ماجستير أو دكتوراه للالتحاق ببرنامج للترشيح لوظيفة طاه!؟ ماهذا التفاني الذي يبذل منهم جميعا لنيل التقدم للمرحلة التالية علي سلم المسابقة؟ هذا التساؤل ورد علي ذهني وأنا أري علي شاشة التليفزيون المتسابقين يتحدثون وقد كتبت وظيفتهم أسفل الشاشة. ماالذي يجعل متسابقة، تحمل شهادة من هارفارد أو من ييل -- تستطيع أن تعمل بأي شركة في العالم وليس في أميريكا فقط وتفرش لها الرمال حتي المدخل بالراتب الذي تريده -- أن تتحمل المتاعب الجمة والضغط العصبي أثناء فترة الاختبار، ناهيك عن شدة وفظاظة وغطرسة رجل مثل ترامب أثناء المواجهة النهائية لاختيار المرشح للتصعيد؟ لا أظن أن غابت عن أذهان جميع المتسابقين احتمال سماع العبارة التي يقولها رئيس لجنة اختيارالطاهي حين الاستبعاد لمتسابق 'You go home' أو عبارة ترامب الشهيرة 'You're fired'.
هنا إذن لابد أن نبحث عن قوي محركة أخري تحركهم وتصمد قوية أمام تلك التحديات العاتية. فلاشك أن الرصيد المصرفي والشهرة هما غايتان أساسيتان يلهث أي متسابق ورائهما ولكن ذلك غير مضمون بالمرة، ففي كل مرحلة، يتم إستبعاد جميع المتسابقين إلا الأول فقط حسبما تري لجنة التحكيم. إذن، هناك دوافع أخري هامة. لا أظن أن بقاء أي من المتسابقين، في الجهتين، علي حاله قبل دخول تلك المسابقات سيجعله يلجأ لأن يقف علي مداخل متروالأنفاق في نيويورك أو شيكاجو يرسم بورتريها للمار مقابل دولارا أميريكيا، أو لكي يجمع علب المشروبات الغازية الصفيح من صناديق القمامة مقابل عشرة سنتات للعلبة. الوضع، كذلك في استراليا، لن يكون مختلفا، فلن تجد منهم من يضطر إلي أن يعزف علي جيتار في شوارع كانبرا وسيدني وأمامه علبة أحذية قديمة يلقي بها المارله ربع دولارا استراليا، أو نائما في الأزقة داخل خيمة من علب الكرتون ويتناول وجبة في مطعم جيش الخلاص. المتساقبون بكل فئاتهم، حتي العاطل عن العمل منهم، يعيش حياة كريمة. إنني أري أن الدوافع القوية هنا هي الرغبة في التميزوالإجادة وإكتساب الخبرات والتي تسعي بالفرد إلي تحقيق السعادة للذات وللآخرين، وليس فقط إيجاد وظيفة أو فرصة عمل. المنافسة الشريفة في حد ذاتها دافع قوي. لقد سمعت مرة مدربة تحفز لاعبة أنه لا بديل لها عن أن تربح الميدالة الذهبية في الدورة الأوليمبية، وذلك بأن قالت لها متسائلة: " ماذا يعني أن تكوني رقم اثنين في السباق؟" فردت اللاعبة قائلة: " أن أكون الأولي علي الخاسرين" !!